فصل: أولاً: قواعد عامة في الخلاف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القواعد الذهبية في أدب الخلاف **


القواعد الذهبية في أدب الخلاف

الحمد لله الذي لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة ، وله الحكم وإليه ترجعون ، والصلاة والسلام على النبي الكريم الذي كان يستفتح صلاته بقوله‏:‏ الله رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، وعلى آله وأصحابه ومن سار على هداهم من أهل الحق والدين إلى يوم البعث والنشور ‏.‏‏.‏

وبعد ،،

فهذه قواعد جمعتها في الأدب الواجب على أهل الإسلام عند الاختلاف عملاً بقوله سبحانه وتعالى ‏:‏ ‏(‏وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله‏)‏ الشورى‏:‏10

وقوله سبحانه‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً‏)‏ النساء‏:‏59

وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا‏)‏ آل عمران‏:‏103

أسأل الله أن ينفع بها عباده المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها ، وقد جعلناها مختصرة موجزة ليسهل جمعها، ولا يعسر على طالب العلم التوسع فيها ، وفهمها ، والحمد لله رب العالمين ‏.‏

القواعد الذهبية لماذا‏؟‏

قد يسأل سائل لماذا سميت هذه القواعد الذهبية‏؟‏

والجواب أن القاعدة الواحدة منها أفضل لطالب العلم ومبتغي الحق من اكتساب الألوف من دنانير الذهب ‏.‏

ذكر الإمام ابن كثير - رحمه الله - في ترجمته لحبر هذه الأمة وأعلمها بكتاب الله ، وهو عبد الله بن عباس رضي الله عنه هذا الخبر ‏:‏

وقال بعضهم أوصى ابن عباس بكلمات خير من الخيل الدهم ، وقال ‏:‏ ‏(‏لا تكَلَّمن فيما لا يعنيك حتى تجد له موضعاً ، ولا تُمار سفيهاً ولا حليماً فإن الحليم يغلبك ، والسفيه يزدريك ، ولا تَذْكُرَنَّ أخاك إذا توارى عنك إلا بمثل الذي تحب أن يتكلم فيك إذا تواريت عنه ، واعمل عمل من بعلم أنه مجزي بالإحسان مأخوذ بالإجرام‏)‏ ‏.‏

فقال ابن عباس ‏:‏ ‏(‏كلمة منه خير من عشرة آلاف‏)‏ ‏.‏ البداية والنهاية 308/8

وهذه الكلمات من ابن عباس رضي الله عنهما قواعد في الأخلاق ، وآداب الجدال لا تقدر بمال ‏.‏

 

أولاً‏:‏ قواعد عامة في الخلاف‏:‏

1‏)‏ ما لا يتطرق إليه الخلل ثلاثة‏:‏ كتاب الله ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإجماع الصحابة ، وما سوى ذلك ليس بمعصوم‏:‏

الأصول التي يتطرق إليها الخلل والتي يجب الرجوع إليها عند كل خلاف هي كتاب الله سبحانه وتعالى ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الثابتة الصحيحة ، ثم ما علم يقيناً أن أمة الإسلام جميعها اجتمعت عليه ، وما سوى هذه الأصول الثلاثة فليس بمعصوم من الخطأ ‏.‏

ويترتب على القاعدة السابقة ما يلي‏:‏

أ‏)‏ لا يجوز لأحد أن يخرج عن المقطوع دلالته من كتاب الله ، وسنة رسوله ، وما علم يقيناً أن الأمة قد أجمعت عليه‏.‏

ب‏)‏ ظني الدلالة من الكتاب والسنة يرد إلى المقطوع ، والمتشابه يرد إلِى المحكم لقوله تعالى ‏:‏ ‏(‏هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب ، وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يتذكر إلا أولو الألباب‏)‏ آل عمران‏:‏7

ج‏)‏ ما تنازع فيه المسلمون يجب أن يردوا الخلاف فيه إلى كلام الله ، وكلام رسوله ، عملاً بقوله تعالى ‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً‏)‏ النساء‏:‏59

2‏)‏ رد المعلوم من الدين ضرورة كفر‏:‏

لا يجوز الخلاف في حكم من الأحكام المقطوع بها في الإسلام ، والمقطوع به هو المجمع عليه إجماعاً لا شبهة فيه ، والمعلوم من الدين بالضرورة كالإيمان بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره من الله تعالى ، وأن القرآن الذي كتبه الصحابة ويقرؤه المسلمون جميعاً إلى يومنا هذا هو كتاب الله لم ينقص منه شيء ، والصلوات الخمس ، وصيام شهر رمضان ، ووجوب الزكاة والحج ، وحرمة الربا والزنا ، والخمر ، والفواحش ، ونحو ذلك من المعلوم من الدين بالضرورة أنه من الإسلام ، وكل ذلك لا يجوز فيه خلاف بين الأمة ورد هذا ومثله كفر ‏.‏

3‏)‏ الخلاف جائز في الأمور الاجتهادية‏:‏

الأحكام الاجتهادية الخلافية التي وقع التنازع فيه بين الأمة في عصور الصحابة ومن بعدهم إلى يومنا هذا يجوز فيها الاختلاف ، ولا يجوز الحكم على من اتبع قولاً منها بكفر ولا فسق ولا بدعة ‏.‏

ولمن بلغ درجة النظر والاجتهاد أن يختار منها ما يراه الحق ، ولمن عرف الأدلة وأصول الفقه أن يرجح بين الأقوال ، ولا بأس بالتصويب والتخطيء ، وبالقول إن هذا راجح ، وهذا مرجوح ، وذلك كرؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج ، وقراءة الفاتحة وراء الإمام في الجهرية ، والجهر والإسرار ببسم الله الرحمن الرحيم ، وإتمام الصلاة في السفر ‏.‏

4‏)‏ وقوع الاختلاف وكونه رحمة وسعة أحياناً‏:‏

الخلاف في الأمور الاجتهادية الظنية واقع من الصحابة والتابعين والأئمة وجميع علماء وفضلاء هذه الأمة ، وذلك أنه من لوازم غير المعصوم ، ولا معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وأما من بعده فلا عصمة لأحد منهم ، والخطأ واقع منهم لا محالة‏.‏

وهذا الخلاف الجائز ، أو السائغ ، قد نص كثير من سلف الأمة أن فيه أنواعاً من الرحمة لهذه الأمة‏:‏

أ‏)‏ الرحمة في عدم المؤاخذة‏:‏

(‏ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا‏)‏ البقرة‏:‏286 وقد ثبت في صحيح البخاري رحمه الله أن الله قال بعد أن أنزل هذه الآية ، وتلاها الصحابة ‏:‏ قد فعلت ، والمجتهد المخطئ معذور ، بل مأجور أجراً واحداً كما جاء في الصحيحين ‏:‏ إذا حكم الحاكم ثم اجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فله أجر واحد‏.‏ متفق عليه‏.‏

ب‏)‏ الرحمة والسعة في جواز أخذ القول الاجتهادي كما نص على ذلك غير واحد من الأئمة المجتهدين‏:‏

قال ابن قدامة رحمه الله في مقدمة كتابه المغني ‏:‏ ‏(‏أما بعد ‏.‏‏.‏‏.‏ فإن الله برحمته وطوله جعل سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام مهد بهم قواعد الإسلام وأوضح بهم مشكلات الأحكام ‏:‏ اتفاقهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة‏)‏‏.‏

وقال الإمام الحجة القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم ‏:‏ ‏(‏لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم ، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة، ورأى أن خيراً منه قد عمل عمله‏)‏ جامع بيان العلم وفضله 80/4

وذكر ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله‏:‏ ‏(‏أن عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد اجتمعا فجعلا يتذكران الحديث فجعل عمر يجيء بالشيء مخالفاً فيه القاسم ، وجعل ذلك يشقُّ على القاسم حتى تبين فيه فقال له عمر ‏:‏ لا تفعل فما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم‏)‏ جامع بيان العلم وفضله 80/2

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ‏:‏ ‏(‏أن رجلاً صنف كتاباً في الاختلاف فقال أحمد ‏:‏ لا تُسمِّه كتاب الاختلاف ، ولكن سمه كتاب السعة‏)‏ ‏.‏ الفتاوى 79/30

5‏)‏ يجب اتباع ما ترجح لدينا أنه الحق‏:‏

ما تنازع فيه الصحابة وأئمة الإسلام بعدهم ، وعلم بعد ذلك أن النص بخلافه فإنه يجب علينا فيه اتبع ما تبين أنه موافق للدليل ، وعدم اتهام السابقين بكفر أو فسق أو بدعة وذلك ‏:‏ كترك الجنب الذي لا يجد ماء للصلاة حتى يجد الماء ، وصرف الدينار بالدينارين ، ونكاح المتعة ، ومنع التمتع في الحج ، وجواز القدر غير المسكر من خمر العنب ، ومثل هذه المسائل كثير ‏.‏

6‏)‏ أسباب الخلاف التي يعذر فيها‏:‏

أسباب الخلاف التي يعذر فيها المخالفون كثيرة ‏:‏ كمعرفة بعضهم بالدليل ، وجهل بعضهم له والاختلاف حول صحة الدليل ، وضعفه ، وكونه نصاً على المسألة أو ظاهراً أو مؤولاً، وتفاوت فهمهم للنص وتقديم بعضهم دلالة من دلالات النص على أخرى ، كمن يقدم الفحوى على الظاهر ، وكمن يقدم الظاهر على الفحوى،كما اختلفوا في قوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق ، فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيهم وقال بعضهم ، بل نصلي ، لم يرد منا ذلك فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم‏)‏ متفق عليه

ومثل هذه الأسباب يعذر أصحابها إذا اجتهد كل منهم لمعرفة الحق ‏.‏

7‏)‏ أسباب الخلاف التي لا يعذر فيها المخالف‏:‏

وأما الأسباب الأخرى التي لا يعذر فيها المخالف فهي الحسد والبغي ، والمراءاة والانتصار للنفس ومن كانت هذه دوافعه للخلاف ، حرم التوفيق والإنصاف ، ولم يهتد إلا للشقاق والخلاف كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم ، فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏)‏ البقرة‏:‏213

فالذين هداهم الله هم الذين لا يبغون ‏.‏

8‏)‏ وجوب طاعة الإمام في الأمور العامة وإن أساء ما لم يخرج من الإسلام‏:‏

منهج أهل السنة والجماعة الصلاة خلف أئمة الجور والجهاد معهم ، وإن كانوا فجاراً ، والصوم بصومهم والحج بحجهم ، وإعطاء الزكاة لهم ‏.‏

ففي الصلاة صلى المسلمون خلف الذين حاصروا الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وصلى السلف خلف الحجاج والوليد ، والمختار بن أبي عبيد ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة خلف الولاة وإن كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها ‏.‏

وفي الزكاة قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أدوا إليهم حقهم ، وسلوا الله حقكم‏)‏ متفق عليه

9‏)‏ لا يجوز للإمام أن يحجر نشر علم يخالفه‏:‏

ليس لإمام المسلمين أن يحجر الناس من نشر علم يخالف رأيه ، أو مذهبه ، بل عليه أن يترك كل مسلم وما تولى، كما ترك عمر رضي الله عنه عماراً وغيره يذكر ما يأثره عن الرسول رضي الله عنه في التيمم‏.‏

وأفتى ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم بخلاف رأي عمر رضي الله عنه في متعة الحج ، وأفتى حذيفة وغيره من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين بخلاف رأي عثمان رضي الله عنه في إتمام الصلاة بعرفة ومنى ‏.‏

ولكن يجب على الإمام أن يمنع نشر الكفر والبدع والزندقة ، وأن يقيم الحدود الشرعية في ذلك ، فسب الله وسب رسوله وسب دينه يوجب القتل لقوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ من بدل دينه فاقتلوه»رواه البخاري ، والساعي في المتشابهات ، والتشكيك في الدين يجب تعزيره كما فعل عمر رضي الله عنه مع صبيغ بن عسل ‏.‏

والمسلم المتأول المخطئ يناقش في خطئه ، وتأوله كما فعل عمر رضي الله عنه أيضاً مع الذين شربوا الخمر تأولاً ‏.‏

ولا يجوز الحكم على متأول إلا بعد قيام الحجة عليه ‏.‏

10‏)‏ لكل مسلم الحق بل عليه الواجب في إنكار المنكر والأمر بالمعروف‏:‏

لما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً من الله على كل مسلم وجب على ولي الأمر إطلاق يد المسلم في ذلك إلا ما كان من حقوقه هو كإقامة الحدود ، والتعازير ، وأما ما كان تحت ولاية المسلم فهذا له كتأديب الزوجة ، والولد في حدود ما شرعه الله في ذلك ، وكذلك إنكار المنكر باللسان ، لو كان هو منكر الإمام نفسه عملاً بقوله تعالى ‏:‏ ‏(‏إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم‏)‏ البقرة‏:‏159-160

فلا يجوز للمسلم أن يكتم علماً ، ولا أن يقر على باطل إذا علم أن إقراره رضا ومتابعة ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حيث يقول ‏:‏ ‏(‏ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن عرف برئ ، ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع، قالوا ‏:‏ أفلا نقاتلهم ‏؟‏ قال ‏:‏ لا ‏.‏ ما صلوا‏)‏ رواه مسلم

ونص الحديث أن المسلم لا يبرأ إلا بالإنكار ، وقد يسلم بالسكوت وعدم الرضا إذا لم يستطع الإنكار باللسان ‏.‏

 ثانياً‏:‏ الآداب التي يجب اتباعها للخروج من الخلاف‏:‏

هذه جملة من الآداب التي إذا اتبعها المسلمون فيما ينشأ بينهم من خلاف اهتدوا بحول الله ومشيئته ورحمته إلى الحق ‏.‏

1‏)‏ التثبت من قول المخالف‏:‏

أول ما يجب على المسلم أن يتثبت في النقل ، وأن يعلم حقيقة قول المخالف ، وذلك بالطرق الممكنة كالسماع من صاحب الرأي نفسه ، أو قراءة ما ينقل عنه من كتبه لا مما يتناقله الناس شفاهاً ، أو سماع كلامه من شريط مسجل أيضاً مع ملاحظة أن الأشرطة الصوتية يمكن أن يدخل عليها القطع والوصل ، وحذف الكلام عن سياقه ، ولذلك ‏.‏ يجب سماع الكلام بكامله ولو أن أهل العلم يتثبتون فيما ينقل إليهم من أخبار لزال معظم الخلاف الذي يجري بين المسلمين اليوم ، وقد أمرنا الله بالتثبت كما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين‏)‏ الحجرات‏:‏6

وقال تعالى ‏:‏ ‏(‏ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً‏)‏ الإسراء‏:‏36

وقد وقفت بنفسي أنا كاتب هذه السطور على حالات كثيرة من الخلاف التي كان أساسها التسرع في النقل، وعدم التثبت فيه ، وعندما وقع التثبت تبين أن الأمر بخلافه‏.‏

2‏)‏ تحديد محل التنازع والخلاف‏:‏

كثيراً ما يقع الخلاف بين المخالفين ، ويستمر النقاش والردود وهم لا يعرفون على التحديد ما نقاط الخلاف بينهم، ولذلك يجب أولاً قبل الدخول في نقاش أو جدال تحديد مواطن الخلاف تحديداً واضحاً حتى يتبين أساساً الخلاف، ولا يتجادلان في شيء قد يكونان هما متفقين عليه ، وكثيراً ما يكون الخلاف بين المختلفين ليس في المعاني ، وإنما في الألفاظ فقط فلو استبدل أحد المختلفين لفظة بلفظة أخرى لزال الإشكال بينهما ‏.‏

ولذا لزم تحديد محل الخلاف تحديداً واضحاً‏.‏

3‏)‏ لا تتهم النيات‏:‏

مهما كان مخالفك مخالفاً للحق في نظرك فإياك أن تتهم نيته ، افترض في المسلم الذي يؤمن بالقرآن والسنة ولا يخرج عن إجماع الأمة ، افترض فيه الإخلاص ، ومحبة الله ورسوله ، والرغبة في الوصول إلى الحق ، وناظره على هذا الأساس، وكن سليم الصدر نحوه‏.‏

لا شك أنك بهذه الطريقة ستجتهد في أن توصله إلى الحق إن كان الحق في جانبك وأما إذا افترضت فيه من البداية سوء النية ، وقبح المقصد فإن نقاشك معه سيأخذ منحى آخر وهو إرادة كشفه وإحراجه ، وإخراج ما تظن أنه خبيئة عنده ، وقد يبادلك مثل هذا الشعور ، فينقلب النقاش عداوة ، والرغبة في الوصول إلى الحق رغبة في تحطيم المخالف وبيان ضلاله وانحرافه‏.‏

4‏)‏ أخلص النية لله‏:‏

اجعل نيتك في المناظرة هو الوصول إلى الحق وإرضاء الله سبحانه وتعالى ، وكشف غموض عن مسألة يختلف فيها المسلمون ، ورأب الصدع بينهم ، وجمع الكلمة وإصلاح ذات البين ‏.‏

وإذا كانت هذه نيتك فإنك تثاب على ما تبذله من جهد في هذا الصدد ‏.‏ قال تعالى ‏:‏ فاعبد الله مخلصاً له الدين ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى‏)‏ متفق عليه

5‏)‏ ادخل إلى المناظرة وفي نيتك أن تتبع الحق وإن كان مع خصمك ومناظرك‏:‏

يجب على المسلم الذي يخالف أخاه في مسألة ويناظره فيها ألا يدخل نقاشاً معه إلا إذا نوى أن يتبع الحق أني وجده ، وأنه إن تبين له أن الحق مع مخالفه اتبعه وشكر لأخيه الذي كان ظهور الحق على يده لأنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس‏.‏

6‏)‏ اتهم رأيك‏:‏

يجب على المسلم المناظر وإن كان متأكداً من رأيه أنه صواب أن يتهم رأيه ، ويضع في الاحتمال أن الحق يمكن أن يكون مع مخالفه ، وبهذا الشعور يسهل عليه تقبل الحق عندما يظهر، ويلوح له ‏.‏

7‏)‏ قبول الحق من المخالف حق وفضيلة‏:‏

إن قبول الحق من مخالفك حق وفضيلة ، فالمؤمن يجب أن يذعن للحق عندما يتبينه ، ولا يجوز له رد الحق ، لأن رد الحق قد يؤدي إلى الكفر كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تماروا في القرآن فإن مراء في القرآن كفر ‏.‏‏.‏‏)‏ رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع 4444

والمماراة هنا معناها المجادلة ، ودفع دلالته بالباطل لأن هذا يكون تكذيباً لله ورداً لحكمه ، وليس تكذيباً للمخالف ‏.‏

ورد الحق كبراً من العظائم ، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الكبر فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الكبر بطر الحق وغمط الناس‏)‏ رواه مسلم وبطر الحق رده ‏.‏

8‏)‏ اسمع قبل أن تُجِب‏:‏

من آداب البحث والمناظرة أن تسمع من مخالفك قبل أن ترد وأن تحدد محل الخلاف قبل أن تخوض في الموضوع‏.‏

9‏)‏ اجعل لمخالفك فرصة مكافئة لفرصتك‏:‏

يجب على كل مختلفين أن يعطي كل منهما للآخر عند النقاش فرصة مكافئة لفرصته فإن هذا أول درجات الإنصاف ‏.‏

10‏)‏ لا تقاطع‏:‏

انتظر فرصتك في النقاش ، ولا تقاطع مخالفك وانتظر أن ينتهي من كلامه ‏.‏

11‏)‏ اطلب الإمهال إذا ظهر ما يحتاج أن تراجع فيه نفسك‏:‏

إذا ظهر لك أن أمراً ما يجب أن تراجع فيه النفس وتتفكر فيه لتتخذ قراراً بالعدول عن رأيك أو إعادة النظر فيه ، فاطلب الإمهال حتى تقلِّب وجهات النظر ‏.‏ وأما إذا تحققت من الحق فبادر إعلانه ،والإذعان له فإن هذا هو الواجب عليك فالذي يخاصمك بالآية والحديث يطلب منك في الحقيقة الإذعان إلى حكم الله وحكم رسوله ‏.‏

وكل من ظهر له حكم الله وحكم رسوله وجب عليه قبوله فورا كما قال تعالى ‏:‏ ‏(‏إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون‏)‏ النور‏:‏51

12‏)‏ لا تجادل ولا تمار‏:‏

لا يكن دخولك في نقاش مع أخيك المسلم هدفه الجدال والمماراة ، بل يجب أن يكون مقصدك معرفة الحق، أو توضيحه لمخالفك ، لأن الجدال مذموم والمماراة مذمومة ، والجدال والمماراة أن يكون الانتصار لرأيك‏;‏ وقطع خصمك وإثبات جهله ، أو عجزه ، وإثبات أنك الأعلم أو الأفهم ‏.‏ أو الأقدر على إثبات الحجة‏.‏

13‏)‏ حدد مصطلحاتك واعرف جيداً مصطلحات مخالفك‏:‏

كثيراً ما يتجادل اثنان ويختلف قوم ولا يكون سبب خلافهم إلا أنهم يستعملون كلمات ومصطلحات كل منهم يفهمها بمعنى يختلف عما يفهمها الآخر ‏.‏

من أجل ذلك يجب عليك أن تحدد معاني كلماتك التي قد يفهمها مخالفك على صورة أخرى ، وكذلك المصطلحات التي تستعملها ، وأسأل مخالفك عن معاني كلماته ، ومصطلحاته حتى تعرف مراده من كلامه ‏.‏

ومن المصطلحات التي يختلف في معناها الناس في الوقت الحاضر‏:‏

المنهج ، طريق السلف ، وسائل الدعوة ، أساليب الدعوة ،البدعة المكفرة ، الهجر ، التطرف ، الإرهاب ، الخروج ‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، وكذلك يجب أن تعلم أن مخالفك يفهم هذه المصطلحات كما نفهمها أنت ، أو كما هو معناها الحقيقي في اصطلاح العقيدة ، الأصول ، البدعة ‏.‏

14‏)‏ إذا تيقنت أن الحق مع مخالفك فاقبله وإذا قبل منك الحق فاشكره ولا تمن عليه‏:‏

يجب على المسلم إذا علم الحق من كلام مخالفه أن يبادر إلى قبوله فوراً لأن مخالفك في الدين يدعوك إلى حكم الله حكم رسوله ، وليس إلى حكم نفسه ‏.‏

وأما اذا كان رأياً مجرداً ، ورأيت أن الحق معه ، وأن المصلحة الراجحة في اتباعه فاقبله أيضاً لأن المسلم رجاع إلى الحق ‏.‏

وأما إذا وافقك مخالفك ، ورجع عن قوله إلى قولك فاشكر له إنصافه ، وقبوله للحق ، واحمد الله أن وفقك إلى إقالة عثرة لأخيك ، وبيان حق كان غائباً عنه‏.‏

15‏)‏ لا تيأس من قبول مخالفك للحق‏:‏

لا تكن عجولاً متبرماً غضوباً إلى اتهام مخالفك الذي لم يقبل ما تدلي به من حجة ، وإن كنت على يقين مما عندك، ولا تيأس أن يعود مخالفك إلى الحق يوماً ، ولربما خالفك مخالف الآن ثم يعود بعد مدة إلى الحق فلا تعجل‏.‏

16‏)‏ أرجئ النقاش إلى وقت آخر إذا علمت أن الاستمرار فيه يؤدي إلى الشقاق والنفور‏:‏

إذا تيقنت أن النقاش والحوار سيؤدي الاستمرار فيه إلى الشقاق ، والنفور فاطلب رفع الجلسة ، وإرجاء النقاش إلى وقت آخر ، وتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً‏)‏ رواه أبو داود ، وحسنه الألباني في السلسلة 273

17‏)‏ الإبقاء على الأخوة مع الخلاف في الرأي في المسائل الخلافية أولى من دفع المخالف إلى الشقاق والعداوة‏:‏

إذا علمت من مخالفك أنه لا يبقى أخاً إلا ببقائه على ما هو عليه من أمر مرجوح ورأي مخالف للحق في نظرك فتركه على ما هو عليه أولى من دفعه إلى الشقاق والخلاف لأن بقاء المسلمين أخوة في الدين مع اختلافهم في المسائل الاجتهادية خيرمن تفرقهم وتمزقهم وبقائهم على خلافاتهم ‏.‏‏.‏‏.‏

 

ثالثاً‏:‏ ما بعد الخلاف‏.‏

إذا وقع الخلاف بين مسلم وآخر في المسائل التي يسوغ فيها الخلاف ، وهي الأمور الاجتهادية ، أو الأمور التي اختلف الصحابة والأئمة فيها قديماً فإن الواجب الشرعي هو اتباع الخطوات السابقة في أدب الخلاف والمناظرة ‏.‏

ولا شك أنه لو اتبعت الخطوات السابقة قضي على الخلاف بإذن الله ، ووصل المختلفان إلى الاتفاق ، ووفقا بحول الله إلى الحق ‏.‏

وأما إذا ظهر لكل منهما صحة نظره وسلامة قوله ، وأنه لا يستطيع أن يدين الله إلا بما يراه ، فإن واجب المختلفين ما يأتي‏:‏

1‏)‏ إعذار المخالف وترك أمره لله سبحانه وتعالى‏:‏

الأدب الشرعي الأول هو إعذار من يخالفك الرأي من المسلمين في الأمور الاجتهادية ، وإيكال أمره لله ، وتنزيهه من فساد النية ، وإرادة غير الحق ما دام ظاهره هو الدين والعدل‏.‏

2‏)‏ إبقاء الأخوة‏:‏

لا يجوز لمسلم أن يقاطع أخاه المسلم لرأي ارتآه ، أو اجتهاد اجتهد في ما دام يعلم أنه تحرى الحق ، واتبع ما يظن أنه الصواب ، ولا يجوز في مثل هذه الحالة هجران أو تعزير ، ولا شك أنه لو أن كل مختلفين تهاجرا لم يبق مسلم مع مسلم ‏.‏

3‏)‏ لا تشنيع ولا تفسيق ولا تبديع للمخالف في الأمور الاجتهادية‏:‏

لا يجوز اتهام المخالف ولا التشنيع عليه ، ولا ذكره من أجل مخالفته ، ولا تبديعه ، ولا تفسيقه ومن صنع شيئاً من ذلك فهو المبتدع المخالف لإجماع الصحابة‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ‏:‏ ‏(‏وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم ، كمسائل في العبادات ، والمناكح والمواريث والعطاء ، والسياسة ، وغير ذلك ، وحكم عمر أول عام في الفريضة الحمارية بعدم التشريك ، وفي العام الثاني بالتشريك في واقعة مثل الأولى ، ولما سئل عن ذلك قال ‏:‏ تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي‏.‏ وهم الأئمة الذين ثَبَتَ بالنصوص أنهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة ، ودل الكتاب والسنة على وجوب متابعتهم‏)‏ مجموع الفتاوى‏.‏

وقال الإمام الذهبي في ترجمة الإمام محمد بن نصر المروزي ‏:‏ ‏(‏ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفوراً له قمنا عليه وبدعناه ، وهجرناه ، لما سلم معنا ابن نصير ، ولا ابن مندة ، ولا من هو أكبر منهما ، والله هو هادي الخلق إلى الحق ، هو أرحم الراحمين ، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة‏)‏ سير أعلام النبلاء 40/14

4‏)‏ لا يجوز التشنيع ولا التبديع ولا التفسيق لأحد من سلف الأمة ومجتهديها إذا خالف بعض الأمور القطعية اجتهاداً‏:‏

ولا يجوز لنا التشنيع ولا التبديع ولا التفسيق لأحد من سلف الأمة المشهود لهم بالخير ، إذا علم أنه خالف في بعض الأمور القطعية اجتهاداً منه ‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ‏:‏ ‏(‏وليس في ذكر كون المسألة قطعية طعن على من خالفها من المجتهدين كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف ، وقد تيقنا صحة أحد القولين مثل كون الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد لوضع الحمل ، وأن الجماع المجرد عن الإنزال يوجب الغسل ، وأن ربا الفضل حرام ، والمتعة حرام‏)‏ الآداب الشرعية 186/1

5‏)‏ يجوز بيان الحق وترجيح الصواب وإن خالف اجتهاد الآخرين‏:‏

لكل من المختلفين أن يذكر ما يراه حقاً ، وينشر ما يراه صواباً ، ويرجح ما يراه الراجح ، وله أن يبين أن قول معارضه مرجوح لأن كلمتان العلم لا يجوز ، وعلى كل مجتهد أن يذكر ما يعتقد أنه الحق ، وإن خالف من خالف من الأئمة والعلماء والأقران ‏.‏

وقد خالف ابن عمر وابن عباس وغيرهما رضي الله عنهما - عمر بن الخطاب ، وأبا بكر الصديق - في متعة الحج ، وأفتيا بخلافهما ، هذا مع كمال الموالاة للصديق والفاروق‏.‏

وكان كل إمام وعالم يفتي بما يراه الصواب وإن خالف غيره ، وقد قال الإمام مالك ‏:‏ ‏(‏ما منا إلا رد ورد عليه إلا صاحب هذا القبر‏)‏ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ‏.‏

6‏)‏ لا يجوز حمل الناس على الرأي الاجتهادي‏:‏

لا يجوز لعالم مجتهد ، ولا لإمام عام أن يحمل الناس على رأيه واجتهاده ‏.‏

وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عمن ولي أمراً من أمور المسلمين ، ومذهبه لا يجوِّز شركة الأبدان فهل يجوز له منع الناس ‏؟‏

فأجاب ‏:‏ ليس له منع الناس من مثل ذلك ، ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد ، وليس معه بالمنع نص من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ، ولا ما هو في معنى ذلك ، لا سيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك ، وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار ‏.‏

وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل ، ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل ، ولهذا لما استشار الرشيد مالكاً أن يحمل الناس على موطئه في مثل هذه المسائل منعه من ذلك ‏.‏

وقال ‏:‏ إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار ، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم ، وصنف رجل كتاباً في الاختلاف ، فقال أحمد ‏:‏ لا تسمِّه كتاب الاختلاف ، ولكن سمه كتاب السعة‏.‏ ولهذا كان بعض العلماء يقول ‏:‏ إجماعهم حجة قاطعة ، واختلافهم رحمة واسعة ، وكان عمر بن عبد العزيز يقول‏:‏ ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً ، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ، ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة ، وكذلك قال غير مالك من الأئمة‏:‏ ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ‏.‏

ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي رحمه الله وغيره ‏:‏ إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد ، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها ، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية ، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه ، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه ، ونظائر هذه المسائل كثيرة ‏:‏ مثل تنازع الناس في بيع الباقلا الأخضر في قشريه ، وفي بيع المقاثي جملة واحدة ، وبيع المعطاة والسلم، الحال ، واستعمال الماء الكثير بعد وقوع النجاسة فيه إذا لم تغيره ، والتوضؤ من ذلك ، والقراءة بالبسملة سراً أو جهراً ، وترك ذلك ، وتنجيس بول ما يؤكل لحمه وروثه ، أو القول بطهارة ذلك ، وبيع الأعيان الغائبة بالصفة ، وترك ذلك ،والتيمم بضربة أو ضربتين إلى الكوعين ، أو المرفقين والتيمم لكل صلاة أو لوقت كل صلاة أو الاكتفاء بتيمم واحد ، وقبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ، أو المنع من قبول شهادتهم ‏.‏

ومن هذا الباب الشركة بالعروض ، وشركة الوجوه ، والمساقاة على جميع أنواع الشجر والمزارعة على الأرض البيضاء فإن هذه المسائل من جنس الأبدان بل المانعون من هذه المشاركات أكثر من المانعين من مشاركة الأبدان، ومع هذا فما زال المسلمون من عهد نبيهم وإلى اليوم في جميع الأعصار والأمصار يتعاملون بالمزارعة والمساقات ، ولم ينكره عليهم أحد ولو منع الناس مثل هذه المعاملات لتعطل كثير من مصالحهم التي لا يتم دينهم ولا دنياهم إلا بها ‏.‏

ولهذا كان أبو حنيفة رحمه الله يفتي بأن المزارعة لا تجوز ، ثم يفرع على القول بجوازها ، ويقول ‏(‏إن الناس لا يأخذون بقولي في المنع ، ولهذا صار صاحباه إلى القول بجوازها كما اختار ذلك من اختار من أصحاب الشافعي وغيره‏)‏ الفتاوى الكبرى 79/30-81

هذا والحمد لله على منه وإحسانه

******************